توطئة
في الآونة الأخيرة، كَثُرَ التوّجه لبرامج التجسير لبعض التخصصات الجامعية المعتمدة في الجامعات الفلسطينية (الانتقال من درجة الدبلوم إلى درجة البكالوريوس)، وبشكل متخصص في حقل علوم المهن الصحية، من بينها تخصص التمريض. وقد كانت خبرتي التدريسية المتواضعة في التعامل مع الطلبة المنتسبين/ات لهذه البرامج معمّقة قليلًا، حاولتُ فيها الوقوف على الدوافع للانتساب لمواصلة مرحلة البكالوريوس، بالإضافة للتحديات التي كانت تشكّل حالة عامة من الوعي والهَمّ الجمعي المشترك بين الطلبة بما نسبته 80% لأسباب مختلفة.
إن غالبية المنتسبين/ات لبرنامج البكالوريوس في التمريض من حملة شهادات الدبلوم، هم طلبة أنهوا الدراسة الأكاديمية سابقًا وخاضوا غمار الحياة العملية والمهنية، شكّلوا فيها سنوات جسام من الخبرة والكفاءة المهنية في مجالات الاحتصاص المختلفة في التمريض. إلا أنه، وبعد فتح باب التجسير، عاد هؤلاء الطلبة لإكمال دراستهم للحصول على الشهادة الجامعية الأولى (البكالوريوس)؛ في خطوة دافعها الأول لدى معظم الطلبة هو تحسين مستوى الدخل، خاصة وأن ترتيب الأجور في فلسطين يعتمد بالدرجة الأولى على رُتبة الشهادات الجامعية.
الفارق هنا إذًا، أن الطلبة هؤلاء، يملكون أكثر من رتبة اجتماعية ودورٍ اجتماعي في حياتهم الشخصية والاجتماعية. بما معناه، أن الطالب/ة هنا هو أخ/ أخت، و/ أو أب/ أم، و ممرض/ة، ورُتب اجتماعية تتفاوت بين اهتمامات الطلبة وتوجهاتهم في الحياة. هذه الرُتب الاجتماعية (أو بمُسمّى آخر: المكانة الاجتماعية) تؤدي بالضرورة إلى وجود أدوار اجتماعية متعددة تتقاطع/ أو تتداخل مع أدوار أخرى بحسب تعدد المكانة الاجتماعية التي تشكّل جزءًا من هوية الطالب/ة؛ إذًا العملية تلازمية.
وفقًا لذلك، تأتي هذه الورقة للوقوف على جزئية مهمة، ألا وهي عبء الدور الاجتماعي الواقع على المرأة الفلسطينية العاملة في مهنة التمريض. لذا، فإن الإشكالية المركزية هنا في هذه الورقة هي، إلى أي مدى يعكس عبء الدور الاجتماعي وتحوّله لصراع الدور في حالة تعدّد المكانة الاجتماعية في حياة المرأة الفلسطينية العاملة في مهنة التمريض، وبصفتها الطالبة المنتسبة لبرنامج التمريض (التجسير).عدا عن ذلك، التأثيرات النفسية لصراع الدور على المرأة الفلسطينية العاملة في مهنة التمريض، وقدرتها على التأقلم/ أو خلق استراتيجيات تكيّف لتسيير أمورها الحياتية في المجالات المهنية والاجتماعية والشخصية.
تعدّد المكانة الاجتماعية وعبء الدور الاجتماعي لدى المرأة الفلسطينية العاملة في مهنة التمريض
تتوارد مفاهيم المكانة الاجتماعية Social Status، والدور الاجتماعي Social Role ، والعبء الاجتماعي Role Strain، وصراع الدور Role Conflict في العلوم الاجتماعية بكثرة؛ نظرًا لارتباطها بالحياة الاجتماعية للإنسان وصلتها بالتفاعلات والعلاقات والتنظيمات الاجتماعية، والتي تشكّل جزءًا مهمًا من حياته تأكيدًا للمقولة السائدة “الإنسان كائن اجتماعي بطبعه”.
تُعرّف المكانة الاجتماعية Social Status كمصطلح سوسيولوجي على أنها وضع/ رُتبة اجتماعي معين لفردٍ ما أو مجموعة من الأفراد ضمن النظام والبنية الاجتماعي الذي يعيشون فيه. إذ يمكن استيضاح مفهوم المكانة الاجتماعية بتفرعها إلى نوعين، وهما: المكانة الاجتماعية الموروثةAscribed Status، ونعني بها السمات الاجتماعية التي اكتُسِبَت بالولادة، كالعمر، الجنس، العرق …الخ. أما النوع الآخر، وهو المكانة الاجتماعية المُكتَسبَة Achieved Status، وهي السمات الاجتماعية التي يتم اكتسابها نتيجة لجهود مكثفة بذلها الفرد في سبيل الوصول لوضع اجتماعي معيّن، أو اتخاذ قرارات معينة كأن تكون زوجًا/ أو زوجة، أب/ أو أم، طالبًا في المرحلة المدرسية أو الجامعية، معلمًا، ممرضًا، مديرًا، موظفًا، رئيسًا، … الخ. لهذا فإن الإنسان يحمل على الأقل وضعين اجتماعيين في حياته، قد يكون واحدًا منهما أو أكثر هما الوضع/ المكانة الاجتماعي البارز Salient Status.
ترتبط المكانة الاجتماعية ضمنًا بمفهوم سوسيولوجي آخر ألا وهو، الدور الاجتماعي Social Role. ويُقصد به التوقعات والواجبات والالتزامات المطلوب أدائها بحسب المكانة الاجتماعية التي يتخذها الفرد لها وضعًا اجتماعيًا في حياته. فالأب والأم (كمكانة اجتماعية بصفتهما والدين)، يتجلّى دورهما الاجتماعي في التربية والتنشئة والتثقيف، وهكذا.
إن تعدّد الأدوار الاجتماعية للمكانة الاجتماعية الواحدة، أي وجود أكثر من دور اجتماعي على الفرد أن يقوم به في نفس المكانة الاجتماعية من شأنه أن يخلق حالة من عبء الدور Role Strain، وهو أثر نفسي نتيجة للإجهاد الواقع على الفرد، والذي يحاول فيه الفرد الموازنة بين متطلبات الدور الاجتماعي. على سبيل المثال، الأم (كمكانة اجتماعية منفردة) تواجه عبئًا اجتماعيًا حينما تتعارض لديها مسؤوليات المنزل مع محاولة الاهتمام بالجانب التعليمي لأطفالها وتدريسهم. بينما لو حاولت هذه الأم تحقيق متطلبات دورها الاجتماعي في مكانتها الاجتماعية كأم، ومتطلبات دورها الاجتماعي كعاملة، فإنه من المحتمل أن تسعى الأم للسيطرة والموازنة بين الأدوار الاجتماعية المختلفة؛ وهنا ينشئ لدينا صراع الدور Role Conflict.
بناءً على التوصيف النظري المُبسَط أعلاه، يمكننا الآن إسقاطه على المرأة الفلسطينية العاملة في مهنة التمريض. في الغالب، فإن المكانة الاجتماعية للمرأة العاملة في قطاع التمريض يكمن في كونها أخت،وزوجة، وأم، وممرضة، وطالبة تجسير، بالإضافة لرُتب اجتماعية أخرى تختلف من امرأة لأخرى بحسب السياق المجتمعي الفلسطيني والظروف الداخلية على صعيد الاجتماعي والثقافي والاقتصادي، والظروف الخارجية كالأثر الاستعماري.
إن تعدد المكانة الاجتماعية للمرأة الفلسطينةكما ذكرنا آنفًا، يترتب عليه أدوار اجتماعية مختلفة ومتعددة بحسب كل مكانة اجتماعية تتبوأها المرأة؛ وهذا مفاده أن المرأة الفلسطينية الممرضة -في حدود اطلاعي- تواجه صراعًا كبيرًا بين الأدوار الاجتماعية المطلوبة منها. وعليه، فإن صراع الدورSocial Role هو صراع ناشئ عن عدم تحقيق توقعات معينة مرتبطة بالمكانة الاجتماعية، أو تعارض بين أدوار اجتماعية متعددة، وعدم تحقيق حالة من التوازن بينها.
صراع الدور الاجتماعي وتأثيراته النفسية على المرأة الفلسطينية العاملة في مهنة التمريض
كُلنا نعلم أن مهنة التمريض هي مهنة مكثفة جدًا في ساعاتها وفي الجهد البدني المبذول؛ وهذا يستدعي نتظيمًا عاليًّا بين المهام اليومية والمسؤوليات الأخرى. لذا؛ يتبلور هنا سؤالًا مركزيًا ألا وهو، كيف يمكن لصراع الدور الناشئ عن تعدد الأدوار الاجتماعية وتداخلاتها مع تعدد مجالات المكانة الاجتماعية أن يخلق أثرًا نفسيًا على المرأة الفلسطينية العاملة في قطاع التمريض؟.
في البداية، يجب الوقوف على طبيعة التحديات التي يواجهُنَّها النساء الفلسطينيات العاملات في مهنة التمريض بالتزامن مع التحاقهن في برنامج الدراسة (طالبات تجسير)؛ إذ يذكرنّ في كلامهن دائمًا بالمسؤوليات المرتبطة بتنظيم أمور البيت والزوج والأولاد وشؤون الحياة الاجتماعية، ثم ترتيب جدول الدوام اليومي الخاص بمهنة التمريض داخل المستشفى/ أوالمركز الصحي/ أو العيادة بطريقة لا تتعارض مع جدول الدوام الدراسي المكثف في الجامعة أو الكلية وما تتطلبه الدراسة من الحضور الوجاهي، والتحضير للمهام الأكاديمية المطلوبة منهم، والدراسة للامتحانات. عدا عن ذلك، فكرة السفر من مدينة لأخرى وما يتبعها من مشقة في ساعات مغادرة البيت والعودة إليه، والمشقة في المواصلات، إلى جانب التغييرات المفاجئة التي تحدث من قبل الاستعمار الصهيوني بفرض سياسات قطع الطرق أو إغلاقها، أو تشديدات أمنية.
إن التحديات أعلاه يمكنها أن تُفرِز لنا حالة من صراع الدور، والذي يتخذ شكلًا اجتماعيًا (مخالفة المعايير الاجتماعية من قيم وعادات وتقاليد بصفتها زوجة وتعمل وتدرس في آن واحد وبالتالي وجودها خارج البيت يأخذمن وقتها كثيرًا)، ووظيفيًا (وذلك بالتنسيق بين ساعات دوام العمل، وساعات الدراسة والتواجد في الكلية، خاصة وأن غالبية النساء يواجهن إشكالية مهنية في بيئة العمل إما مع رؤساء الأقسام للحصول على إذن مغادرة، أو التنسيق مع زميلاتهن وزملائهن في تقسيم الورديات)، وأكاديميًا (مهام الدراسة والحضور الوجاهي)، وزواجيًا (حالة من عدم الرضا الزواجي، وقلة الدعم من الزوج بعدم مشاركتها في أعباء البيت وتربية الأطفال، مشكلات صحية معينة، الطلاق، وفاة الزوج…الخ)، وأسريًا (مسؤولية الحفاظ على بيتها والاهتمام بأطفالها بحسب العُرف الاجتماعي، وتلبية متطلبات العيش الكريم في حالة كلا الزوجين يعملان، أو في حالة إن كانت المرأة هي المعيل الرئيسي، عدد الأطفال)، واقتصاديًا (تدني الأجور ومستوى الدخل، وارتفاع سقف متطلبات الحياة الأساسية)؛ إذًا فنحن نتحدث عن صراعٍ مُركّبٍ من شأنه أن ينعكس سلبًا على الصحة النفسية للمرأة الفلسطينية وذلك بجعلها في حالة من الإجهاد بصورة يومية ودائمة ومفرطة. على صعيد آخر، إن الإجهاد/ التوتر/ الضغط النفسي يتطور إلى حالة من الإجهاد المزمن Chronic Stress ثم الاحتراق النفسي Burnout ثم أعراض قلق أو اكتئاب وأعراض/ أو أمراض صحية فسيولوجية معينة كالضغط والسكري، والذبحة الصدرية، وآلام في المفاصل والعظام: …الخ ؛ حتى يصل بها إلى حالة من سوء التكيّف وعدم قدرتها على مواجهة مصادر الضغوط النفسية المُسببة لحالة الإجهاد، أو حتى تطوير آليات/ استراتيجيات تكيّف معينة من شأنها أن تحقق حالة من التوازن بين متطلبات أدوارها الاجتماعية المتعددة.
الخلاصة
إن المرأة الفلسطينية العاملة في مهنة التمريض ومهن أخرى، تواجه الكثير من صراعات الدور في الوقت الذي يتسارع فيه نمو المجتمع الفلسطيني مما يخلق أشكالًا مختلفة من التحديات التي يجب إيجاد لها حلول معينة تخفف من صراعات الدور الاجتماعي.
لقد سعت هذه الورقة إلى رسم قراءة أولية حول حجم عبء الدور الاجتماعي وتأثيراته النفسية على المرأة الفلسطينية العاملة في مهنة التمريض -تحديدًا= في الوقت الذي يشهد استقطابًا عاليًا من قبل مؤسسات التعليم العالي للعاملين في مهنة التمريض نساءً ورجالًا؛ لاستكمال دراستهم وحصولهم على الشهادة الجامعية الأولى؛ التي من شأنها أن تُساهم في خلق فرص أفضل تعينهم في تحقيق التوقعات والآمال والطموحات التي يسعون إليها.
على صعيد آخر، محاولة طرح لفكرة تصميم برامج أكاديمية مناسبة لظروف الطلبة (مرحلة التجسير) من بينهن النساء، بالتزامن مع تشكيل اتفاقيات تعاون مع المؤسسات الصحية التي ينتمون إليها الطلبة -تحديدًا النساء منهم-؛ بغرض تخفيف من حدة عبء الدور وصراع الأدوار بطريقة متوازنة تحقق مفهوم التوافق النفسي، وتخدم استقرار الصحة النفسية والوضع الاقتصادي، والشعور بالإنجاز المهني والأكاديمي وتحقيق الذات لدى المرأة الفلسطينية العاملة في مهنة التمريض. علاوة على ذلك، تصميم وتقييم فكرة بحثية لأهمية توفير برامج إرشاد وتوجيه وتثقيف نفسي اجتماعي لهؤلاء الطلبة؛ لإعادة ضبط وتقويم الأمور الحياتية وأي إشكالات عالقة ترتبط بأدوراهم الاجتماعية لحل صراعات الدور.
الببيلوغرافيا باللغةالعربية:
محمد، نوري. (2015). صراعالأدوارلدىالمرأةالعاملة: دراسةوصفيةلأثرخروجالمرأةللعملعلىأدوارهاالاجتماعية. مجلة العلوم الاجتماعية، جامعة عمار ثليجي الأغواط، 9 (1)، 74-93.
ناصيف، جميل، وعبد محمد عساف. (2009). صراع الأدوار لدى المرأة العاملة في محافظات شمال الضفة الغربية وعلاقتها بالتوافق النفسي، رسالة ماجستير غير منشورة. جامعة القدس: فلسطين.
Bibliography in English
Giddens, A., & Sutton, P. W. (2009). Sociology. Polity press.