زاد في الآونة الأخيرة في أوساط الفقهاء المسلمين وأيضًا في الأوساط الأكاديميّة الحديثُ حول تقلّد النساء مناصبَ كانت حكرًا على الرجال، مثل القضاء والوزارة والإمامة والإفتاء وغيرها، خصوصًا مع زيادة انخراط المرأة في المجتمعات وظهور شعارات مناصرة المرأة وحقوقها ومساواتها بالرجل؛ الأمر الذي أدَّى لإثارة الكثير من الجدل، نظرًا لندرة الحالات المشابهة في التاريخ الإسلاميّ المُجمَع عليها وأحيانًا لعدم وجود مثل هذه الحالات في المناصب التي ذكرنا. هذه الزيادة دفعت بالفقهاء والعلماء للنظر من جديد في الأدلّة على ضوءِ التطوّرات التي نعيشها على مختلف الأصعدة الاجتماعيّة والاقتصاديّة والتقنيّة، والتي أدّت بدورها إلى تغييراتٍ بِتنا نشهد أثرَها ونلاحظ نتائجَها في المجتمعات المسلمة.
وحديثي في هذا البحث سيكون حول منصب الإفتاء وتقلُّد النساء إيّاه. وما دفعني للحديث عنه هو أنه لم يُحظَر فقهيًّا على المرأة البتُّ في الآراء الفقهيّة أو نقلُها عبر التاريخ الإسلاميّ؛ على العكس، فوجود السيّدة عائشة والسيّدة أمّ سلمة زوجَي الرسول محمّد -عليه الصلاة والسلام- يثبت أنّ المرأةَ سبق وأنْ قامت بنقل الأحكام الشرعيّة بل والنظر فيها وتقديم أحكامٍ مُّستقاةٍ من كلام الرسول، بالإضافة إلى عدم وجود جدلٍ فقهيّ حول هذا المنصب كالجدل المثار حول تولّي المرأة القضاءَ أو الإمامة، إذ أُجمِع في فتراتٍ مختلفة من التاريخ الإسلاميّ على حرمة تولّي المرأة منصبَ الإمامة، واختُلِف عليها في مسألة القضاء وبعضهم أباحه بشروط، لما فيهما من حساسيّة ومسؤوليّة كبيرة لا تستطيع كلُّ النساء تحمُّلَها، كما يقول الفقهاء. هذا الأمر جعلني أتساءل عن سبب قلّة وجود نساء مُفتيات في عالَمنا المعاصر، بل وفي بعض الدول لا وجود لهذا المنصب، لا بشكلٍ رسميّ ولا خاصّ، رغم عدم وجود نصوص شرعيّة تمنع المرأةَ من تولّيه. بالمقابل، هناك حالة فريدة لوجود مثل هذا المنصب وهذا الدور للنساء كمفتيات هنا في البلاد، في ’المجلس الإسلاميّ للإفتاء – بيت المقدس‘ المُقام في مدينة أم الفحم منذ العام 1998، وتعمل فيه النساء مؤخّرًا كمفتياتٍ مثل الرجال، حيث تتوجَّه لهن الكثير من المستفتيات النساء مثلهنّ، يسألنهن عن قضايا كثيرة، أهمّها القضايا التي تخصّ المرأة وأمور المعاملات الماليّة.
وعليه فإنّ حالةَ البحث ستكون عن النساء المفتيات العاملات في هذه المؤسسة: عن دورهنّ، وتاريخ تولّيهن المنصب، وطبيعية عملهن فيه، خصوصا بعد غياب لهذا المنصب في دول إسلامية، وفي بعض الحالات ظهوره لأول مرة كما في حالة بحثنا هذه. سأبدأ البحث أولا باستعراض المصطلحات الأساسيّة الخاصّة بعالم الإفتاء، كمنصب المفتي وشروط تعيينه وماهيّة الفتوى، ثم أنتقل للحديث عن تاريخ الإفتاء في فلسطين، الأمر الذي ينقلنا للحديث عن ’المجلس الإسلاميّ للإفتاء – بيت المقدس‘: عن تاريخ تأسيسه وجمهوره والقنوات التي يتسخدمونها لطلب الفتاوى وطرق الإجابة عنها. ثم الحديث عن تمثيل النساء المسلمات الفلسطينيّات فيه ودورهنّ كمُفتيات صاحبات مَقاعد مُماثِلة للرجال، وكيفيّة تأثير المرجعيّة الفكريّة والمنهجيّة الفقهيّة للمجلس في تبنّي خِطابٍ ورؤيةٍ سهَّلا عودة/ظهور نموذج المرأة المُفتية. وأخيرًا، سأعرض عيّناتٍ من الأسئلة التي يوجِّهُها جمهورُ المستفتيات النساء، والفتاوى التي تجيب بها المفتيات.